السبت، 19 مايو 2012

مهزلة أخرى في المجلس التأسيسي

عقدت أوّل أمس (17 ماي 2012) جلسة سرّية لنوّاب المجلس التأسيسي لتناول مسألة الزيادة في مرتّبات وامتيازات النوّاب. وقد قالت السيدة محرزية العبيدي نائبة رئيس المجلس، لتبرير سرّية الجلسة: 
"تمّ تناول شؤون النواب، وكان هذا بطلب من أغلبية النوّاب أنها تكون معناتها مغلقة، ونتصوّر أنو في تداول مثل هذه الشؤون يكون أسهل عليهم لمّا يكون النواب مع بعضهم موشي تكون الكاميرات مسلّطة عليهم، بش يعبّروا على الإشكالات التي يعيشوها والصعوبات اللي يتلاقوها..." (انظر الفيديو المصاحب)
ونشرت جريدة الصباح بتاريخ 18 ماي مقالا بعنوان "في جلسة عامّة سرّية بالتأسيسي: نواب يطالبون بامتيازات جديدة.. وبعمل قار ووسائل نقل" بعض كواليس ما دار بالمجلس خلال جلسة "الامتيازات"، وقد جاء في المقال ما يلي:

"علمت الصباح من مصادر خاصة داخل المجلس الوطني التأسيسي ان الجلسة العامة السرية التي انعقدت يوم أمس ناقشت ثلاثة محاور رئيسية وهي امتيازات النواب والحسم في مسألة التصويت وجدولة الجلسات العامة لمناقشة مفاصل أعمال اللجان المكلفة بإعداد الدستور.
وفيما يتعلق بالامتيازات طالب عدد من النواب بتمكينهم من التغطية الاجتماعية والصحية ومراعاة ظروف النائبات بإعطائهن فرصة القيام بواجباتهنّ كأمهات.
مطالب..
كما طالب عدد اخر من النواب من المعطلّين عن العمل بتمكينهم من عمل قار بعد انتهاء المدّة التأسيسية إضافة الى تمكين النائب من وسلية نقل للتنقل الى الجهات.
كما طالب البعض الآخر بتشييد إدارة خاصة بالنواب تضم مكاتب وسكن.
امتيازات..
ومن بين الامتيازات التي نادى بها النواب في جلسة امس مراجعة رواتبهم حسب جهاتهم فيما دعا البعض من النواب الى احترام لافتة منع التدخين داخل المجلس.
(...)
" (انتهى الإقتباس من المصدر)

والآن بربّكم، لنتوقّف قليلا من أجل تلخيص الموقف:
أوّلا، السيدة محرزية العبيدي وزملاءها النواب الكرام يعتبرون أن مناقشة رواتبهم وامتيازاتهم شأن يخصّهم وحدهم فقط ولا يجب على المواطنين الذين يدفعون تلك الأموال من كدّ يومهم وقوت أبناءهم الاطّلاع عليه!


ثانيا، تتلخّص أهم طلبات نوّابنا الكرام في:
  • توفير التغطية الصحية والاجتماعية لهم، ربما لأنّ رواتبهم المقدّرة حسب هذا المصدر ب2500 شهريا غير كافية لدفع مستحقات المستشفيات والأدوية إن مرض أحدهم!
  • توفير شغل قار للعاطلين منهم بعد مغادرتهم المجلس، لأنه يبدو أنّ نوّابنا الكرام يعتقدون أنّ المجلس التأسيسي هو مجرّد مكتب تشغيل!
  • تمكين النوّاب من وسيلة نقل للتنقل إلى الجهات، لأنه يبدو أنّ وسائل النقل العمومية غير مريحة ومناسبة ليستعملها نوّابنا الكرام كبقية المواطنين، مع العلم أنهم يتمتّعون بامتياز استعمالها مجانا!
  • تشييد مكاتب وسكن للنواب، لأنه ربما يعملون 24 ساعة لسبعة أيّام في الأسبوع فلا يجدون الوقت للراحة أو العودة إلى منازلهم فوجب توفير مكاتب العمل والسكن على عين المكان.
  • وفي انتظار عمارات المكاتب والسكن، وجب على الشعب أن يدفع ما قيمته 900 دينار شهريا كبدل سكن لكل نائب من نوّابنا الكرام. فيبدو أنّ ال2500 دينار غير كافية لتغطية تكاليف إقامة النائب. ثم إنّ 900 دينار (حوالي أربعة مرّات الأجر الأدنى أو السميغ) لا تكفي والحال أنّ معدّل تكلفة إيجار شقّة في ضواحي العاصمة لا يتجاوز 500 دينار شهريا!
  • وأخيرا وليس آخرا، الراتب المقدر ب2500 شهريا (حوالي عشر مرّات الأجر الأدنى) هو نفسه غير كاف ووجب مراجعته بالزيادة (لا النقصان) وحسب الجهات أيضا. فالقاطن في تونس الكبرى ولا شك ينفق أكثر بكثير ممّن يقطن في ولاية القصرين أو في رواية أخرى النائب الممثل لستين ألف تونسي في العاصمة أكثر حضوة ممّن يمثل ستين ألفا في القصرين، ولك صديقي القارىء اختيار الرواية التي تناسبك!
 
تصريحات بعض نواب مجلسنا الموقر حول جلسة الرواتب والامتيازات

والآن من أين سأبدأ في التعليق على هذه المهزلة الجديدة لمجلس نوّابنا الموقّر؟ هل يجدر بي أن أبدأ بتذكيرهم بأحوال مواطنيهم المادية والإجتماعية لعلّهم يستحون قليلا؟ أم أحتاج لتذكيرهم بما يحدث داخل برلمانات الدول الديمقراطيات العريقة؟ ولعل الأفضل بين الإثنين أن أعبّر لهم أوّلا على مدى تألّمي لهذه القصة الحقيقية التي سردها المدّون بوقرنين، وهو طبيب يمارس مهنته في أحد مستشفيات بن عروس. حيث يتحدّث الرجل بصدمة على وضعية إمرأة يتهددها الموت إن لم تشتر علبة دواء قيمتها ستة دنانير (أي نعم يا نوّابنا الكرام، ستة دنانير وليس 900 أو 2500 دينار!) ويذكر بحسرة كيف قالت له إن الدواء لم يجعل لأمثالها وإنما هو فقط حكر على الأغنياء... أي نعم، سيدة مجاهدة تعول أربعة أطفال وزوج مقعد وليس لها مصدر دخل ورغم ذلك تفضّل أن تشتري بالستة دنانير -إن وجدتهم طبعا- حليبا وخبزا لأولادها على أن تصرف ذلك على صحّتها ويبيت أولادها على الخواء! هو مثال عميق على التضحية بالنفس من أجل أطفالها يقدّم لكم يا نوابنا أفضل صورة على سمّو الذات البشرية من سيدة لا يعنيها جشعكم وترفكم بقدر ما يعنيها أن تعول أطفالها وتعيش بكرامة وكان من المفترض أن تكونوا من يحقق لها ذلك! بينما أنتم يا نوّابنا الكرام لا تستحون من طلب المزيد من دم هذا الشعب الكادح الذي وصل جزء كبير منه إلى فقر وفاقة لا يقدر معهما على ابتياع علبة دواء.. أفلا تستحون؟ لو كنت مكانكم لاعتزلت الدنيا والناس فما تفعلونه يعطي انطباعا بأنكم مجرّد مجموعة من اللصوص لا غير!
 وأمّا عن الدول الديمقراطية فدعنا نبدأ بفرنسا التي أعطتكم في انتخاباتها الأخيرة حكومة ومعارضة، درسا عميقا في الوطنية و احترام قيم الجمهورية، فهاهي وزيرة الإسكان الفرنسية سيسيل ديفلو تذهب إلى وزارتها باستعمال الميترو كملايين مواطنيها وتقول "لا أرى أيّ تعارض بين أن تستعمل الميترو وحقيقة أن تكون زيرا...". هذا بينما تجتمعون يا نوّابنا الكرام في سرّية كاللصوص، لتطالبوا بوسائل نقل خاصة (وأحسبكم تقصدون أسطولا من سيارات المرسيدس بسوّاقها ومئات الليترات من الوقود) على حساب دافعي الضرائب الذين لا يجدون ما يسدّون به الرمق في وقت أصبح فيه ثمن كيلوغرام من الطماطم أغلى من حبّ الملوك!
ولنذهب الآن إلى كندا، إحدى أكثر الديمقراطيات استقرارا وليبرالية (الثامنة على مستوى مؤشّر الديمقراطية من بين 167 دولة، العاشرة من بين 173 دولة في حرية الصحافة، والسادسة على مستوى مؤشّر التنمية البشرية من بين 181 دولة). حيث يعيش نوّاب الشعب هناك كالطلبة ويعملون يوميا من السابعة صباحا وحتى ساعات متأخرة من المساء لخدمة مواطنيهم وبلدهم، ولا يتحرّج هؤلاء النواب من المبيت عند أصدقائهم من أجل ألا يكلّفوا دافع الضرائب أموالا كثيرة. وأدعو نوّابنا الكرام إلى الاستماع إلى هذا البرنامج الإذاعي الذي يتناول حياة نوّاب الشعب في كندا. وكي لا نهدر الكثير من وقتهم الثمين، والذي يفترض بهم أن يقضوه في بناء مستقبل تونس، بإمكانهم الاستماع بداية من الدقيقة الثانية عشر.

ولعلّ البعض سيقول بأنّ النواب قد اقترحوا منحة سكن ب900 دينار لتخفيض تكاليف الإيجار في الفنادق السياحية وما ذلك إلّا كلام حق يراد به باطل. أوّلا، كان الأولى أن يقع حل مشكلة سكن النوّاب القادمين من خارج العاصمة منذ الأيام الأولى وليس الآن بعد ستة أشهر من بداية عملهم وبعد أن أُهدرت ملايين الدنانير على الفنادق السياحية وأكلاتها الشهية، والتي تجعل من بعض النواب يستعملون التلفزيونات للدفاع عن ذلك النسق المترف للحياة بينما يتضوّر ملايين التونسيّين جوعا. ثم إن كانت منحة السكن تهدف إلى تخفيض أعباء الإنفاق على ميزانية الدولة فمن المفترض أن يتمّ تحديد قيمة معقولة تراعي مستوى العيش في العاصمة (فمعدل تكلفة إيجار شقة متوسطة في ضواحي العاصمة لا يتجاوز 500 دينار شهريا) وأن تدفع تلك القيمة بناء على عقد إيجار قانوني مباشرة للمسوّغ لمنع أية محاولة تلاعب من قبل النائب.

وآخر كلامنا، أننا أخيرا وجدنا موضوعا يتّفق عليه نواب الأغلبية والمعارضة على حد السواء، بل يتحالفون فيه بشكل موضوعي لأنه يمسّ من مصالحهم الشخصية المادية والفئوية الضيقة، الشيء الذي يجعلهم يجتمعون حوله بشكل سري بعيدا عن الأضواء ضاربين بكل الأخلاقيات عرض الحائط ودون أن يرفّ لهم جفن أو يأنبهم ضمير. وأما الديمقراطية وأمانة كتابة الدستور ودماء الشهداء ولسعات الجوع التي تحرق بطون آلاف التونسيين فلتذهب كلها إلى الجحيم! لقد قلناها سابقا ونعيدها مرة أخرى وسنظل نرددها بلا وجل: نحن نشهد في تونس سيطرة طبقة سياسية انتهازية ولا تتميّز بأية نزاهة أو شرف وأصبح كنسها أولوية وطنية مطلقة...

انتخبنا من كنّا نعتقد بأنه سيحمي الثورة فإذا به أوّل من يسعى إلى سرقتها...


تحديث (الساعة السادسة مساءً بتوقيت نيويورك ليوم 19 ماي 2012):
وردت علينا التوضيحات التالية من النائبة السيدة إيمان بن محمد ردًّا على رسالة لنا حول موضوع هذا المقال. فالرجاء الاطّلاع عليها للحصول على وجهة النظر الأخرى. وشكرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق