السبت، 12 مايو 2012

مقامة القنّاص

حدّث أبو بندقية القنّاص قال:
في عهد زعبع السلطان، استتبّ الملك في تونستان، وعمّ البلد الأمن والأمان. فتداعى الأفواج من سيّاح الفرنجة والرومان، يطلبون البحر والشمس والشطئان. وألف الناس الزمان وعاشوا في سكينة ورغد، لا خوف لهم على اليوم أو الغد، ولم يُصبْ الدولة نكد ولا كدّر صفوها أحد. فكل المارقين امتلأت بهم السجون وضجّت بالخونة المحون، وطرب الرعايا بالفنون وتمتّعوا بالجواري الحسان والصبايا والخلّان، وانتشر المجون من المسجد وحتى التلفيزيون. فكثر الغناء في مج
الس الأغنياء، ولم نسمع بالعناء يُرهق الأشقياء، بل انتشر الثراء واختفى الفقر والفقراء. وفي يوم ليس ببعيد، بلغنا أنّه في جهة أبا زيد، بلغ أحد أفراد الرعيّة، من وراء البحار إشارة ربانية، فانبرى يرعد ويزْبد، فتلقّاه عاملنا على المدينة بالرفق والمودّة، لكنه عصى وتجبّر، فالإشارات قويّة والعقل مخدّر، ففقد صوابه وانهار، وفي جسده أشعل النار. فراح الناس يهلّلون ويكبّرون، واجتمع بهم الحاقدون، فأخذوا بالنعمة يكفرون وعن سراط العهد الجديد يرتدّون. وأخذتهم العزّة بالإثم، ولم ينفع معهم نصح ولا حِلم، فتجرّأوا على والي المدينة فكالوا له الشتائم المهينة، ثم تداعوا على الوزراء والحاشية بالسبّ والتجريح، واتّهموهم بكل فعل قبيح، ثم سبّوا مقام السلطان بكل قول فصيح. فنادى في القصر منادٍ، أيا أيها الأجناد، لقد بلغنا منهم الكِبَرُ والعناد، واشتدّ بهم الكفر والارتداد، فهلمّ نؤدّب الجناة ونصلح العصاة، ونثأر لمقام صاحب الحكمة، حاكم الأمّة وسلطان المملكة، ونعتذر للملكة ونحفظ كرامة الحاشية والزمرة.
فبلغ النداء جند المدن والبيداء، فضجّت حاميات قفصة وصفاقس بالبلاء، وركب الجند الجياد، مسلّحين بأفضل العتاد، واحتلّوا أبا زيد في ساعات، فأشبعوا القوم ضربا ولكمات، وهجموا على المنازل والديار، فبطشوا بالصغار قبل الكبار، لكن شباب المدينة استمات في الدفاع عن الحرمات، فأظهر شجاعة وحرصا وثبات، فخرج ليلا لمرابض الجند فهاجمها، وطارد عرباتهم حتى أحرقها، وأحصى عيونهم ومخبريهم حتى طردهم، وصوّر لملاحمه صورا نشرها على الملأ، فبلغ الأمر كل مصر وقطر. فغضب السلطان لمّا بالخبر علِم، وخطب في الناس بلا حِلم، متوعّدا المارقين بكل حزمٍ، وجمع وزراءه وعُمّاله، وهاتف خاصّته وحرسه، أن هيبتي قد دنّست وسطوتي قد لوثّت وسمعتي قد شوهّت، وإني والله لأرى رؤوس الفتنة رأي العين، ولعازم على قطع دابر غربان البين، ولأجعلنّ السجن مثوى كل المعارضين، والصلب جزاء كل المارقين، والقتل نهاية كل المتمرّدين.. وأمر صاحب الشرطة أن نفّذ رغبتي بكل سطوة، وأطلق النار بلا رحمة.. وأرسل إلى أمير الحرب يطلبه، ولما حضر على تهاونه قرّعه، وطلب إليه أن أخرج كل دبابتك وجنّد كل عسكرك واستعدّ لأمّ المعارك. فما كان منه إلا أن عبّأ كل رجل وبندقية، واحتل كل مدينة وقرية، حاميا ظهر صاحب الشرطة ومتفرّجا على الإستعدادات للمذبحة.

ثم تجشّأ أبو بندقية القنّاص وقال:
في ذلك الحين، كنت وحامية القنّاصين، في التدريب على القتل متفانين، نقضي يومنا في امتشاق بنادقنا الحربيّة وتعلّم الفنون العسكرية. حتى جاءنا أميرنا النينجا بخبر كان يُرْجى. وأمرنا أن استعدّوا للحرب، فهناك رقاب كثيرة تنتظر الضرب. فجمعنا عتادنا على عجل وتفرّقنا على المدن بلا وجل. فتسلّقنا الأبنية والحصون وانبطحنا على البطون ولفرائسنا بقينا بصبر منتظرين. لكن ما مرّ زمن طويل حتى ظهر في مرمانا شباب عزّل، من قنابل صاحب الشرطة هاربين، ومن عِصيّ رجاله فارّين، فشغلنا أسلحتنا وأطلقنا الطلقة بعد الطلقة، لتسقط الجثّة بعد الجثّة، ولا تسلني كم من أمّ ثكلنا وطفلة يتّمْنا، فقد استمرّت الانتفاضة هادرة ورصاصاتنا غادرة حتى جرى الدم سيولا وما كفّت الدموع هطولا أياما طويلة. لكن رصاصنا ما عاد يوقف المحتجّين ولا كانوا من بنادقنا خائفين، بل تصاعد غضبهم وفي الشوارع ألقوا أنفسهم، يطلبون رصاصنا ويتحدّون نيراننا. فلمّا بلغ الأمر الباب العالي، ارتعد السلطان والموالي، فجمعوا حوائجهم على عجل وفرّوا من البلاد بليل. ووصل الخبر إلى كبير وزرائه فاشتدّ به الكرب، ولم يدري كيف يدفع النّصب، فأشار عليه كبيرنا أن أعلن هروب زعيمنا وزوال سبب نفيرنا.
فكان الأمر كذلك فابتهج الناس لزوال رأس المهالك. لكن أميرنا أسرّ إلينا أننا للبلد هادمون وفي أهلها النار مشعلون. ففتح جند الشرطة السجون وأطلقوا عتاة المجرمين وأحرقوا الناس أحياء وذبحوا السكان وقطّعوهم أجزاء، وآزرهم العسكر فأطلقوا النار على كل عربة، ومنعوا الجولان على كل دابة، وأوقفوا كل مارٍّ ببلدة، وأذاقوا الناس الموت بكل قسوة. وانبرت التلفزيونات تبثّ الإشاعات وتوهم الناس بعظائم الأمور وتبشّرهم بالويل والثبور. فخرج الناس أفرادا وجماعات للذود على الحرمات. فجمع كبير الوزراء نفرا من الخبراء، وأطلعهم على أمر الناس، وأسرّ إليهم بخوف وانتكاس أن أشيروا عليّ بسبيل للخلاص. فأطرقوا بإمعان ثم قالوا علينا بفلان، فاستقدموه وعلى خطورة وضعهم أطلعوه. فقال لهم ولّوني أمركم ولن تخشوا على مستقبلكم. فوافقوا فخرج على الناس ببعض الأمثال والآيات وأطنب في الأشعار البليغات، وحمّل السلطان الهارب كل البوائق ووعد السامعين بكل المرافق. فخلب لبّ الجمع بفصيح البلاغه ليتفرّقوا عنه من بعد ذلك بكل سلاسة. وبعد أيام قليلة منح رجال السلطان شهائد الفضيلة، ويسّر لبعضهم للسفر وسيلة، ونصّب أكثرهم أعيانا في كل مدينة. ولما سئل عن القناصة قال إنهم والله إشاعة بغيضة وما ذكرهم إلا بدعة وضيعة.

خرافتنا طابة طابة والعام الجاية إن شاء الله تجينا صابة...


كل تشابه بين أحداث هذه القصة والواقع من محض الصدف ولا يتحمّل الكاتب أية مسؤولية في ذلك...

هناك تعليق واحد: