الاثنين، 14 مايو 2012

البطالة في تونس.. ذهنيّة تاريخية!

لا حرّية ولا كرامة دون استقلالية ولا استقلالية دون عمل!
يقول المثل الصيني الشهير: "لا تعطني كل يوم سمكة ولكن علّمني كيف أصطادها". كثيرا ما ردّدنا هذا المثل في المدرسة ونحن صغارا، فقد كان يحرص معلّمنا على بيان فضل اعتماد كل واحد فينا على نفسه. تلك الأيام الجميلة خلت، ولم يبق منها سوى بعض الذكريات وحصيلة ما رسخ في ذهني من قيم ومبادىء تعلّمتها في ذلك الزمن الجميل. ولكن رغم أنّ مدرستي كانت في قرية صغيرة ومنسية في عمق ريف ولاية سيدي بوزيد أين انطلقت "الثورة" إلا أنّ ظروفنا الصعبة والشاقة في ذلك الوقت لم تمنع مدرّسينا وكذلك أهلنا، من تلقيننا القاعدة الأولى والأساسية لمواجهة صعاب الحياة: الاعتماد على النفس! والآن لعلّي بقارىء هذه الكلمات يتّهمني في قرارة نفسه بالنرجسية والإغراق في الذاتية. لا يا سيّد(ت)ي، فلقد بحثت عن طريقة للتمهيد لصلب الموضوع فلم أجد أفضل من الانطلاق من المبادىء التي تعلّمناها منذ الصغر.
منذ أسابيع، شاهدت على الفايسبوك فيديو لأحد الملتحين يشتم فيه وزير التشغيل بكل النعوت، فقط لأنه ألغى ما سمّي بمنحة أمل التي قرّرها محمد الغنوشي في حكومة 13 جانفي (أو ما اصطلح عنه بحكومة الغنوشي 1). وكان الهدف منها إسكات الشعب بعد فرار الدكتاتور، وكما  صرّح لاحقا "شراء السلم الإجتماعية"، طبعا مقابل إعادة سيطرة حكومة التجمّعيين على البلاد. كلفت تلك المنحة (مئتي دينار شهريا لكل حامل شهادة عليا عاطل عن العمل) خزينة الدولة ما يزيد عن نصف مليار دولار تمّ توفيرها عبر قروض من البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، يعني ببساطة تداينت الدولة فقط للإستهلاك ولم يتمّ توظيف الأموال المقترضة في أية مشاريع صانعة للثروة (كالبنية التحتية مثلا). ولا يحتاج المرء لدكتوراه في الإقتصاد ليعلم أنّ ذلك النوع من القروض هو ببساطة عملية انتحار بطيئة! ولما جاءت الحكومة الحالية وجوبهت بالحقائق الإقتصادية المرة كتفاقم نسبة العجز في ميزان الدفوعات وتفاقم نسبة الدين الخارجي وتراجع احتياطي العملة، إلخ، اضطرت للتخلي عن تلك المنحة التي تزيد الطين بلّة دون أن يكون لها في الواقع أي أثر إيجابي على التشغيل. فلو تمّ مثلا استغلال النصف مليار دولار المقترضة في بناء بنية تحتية في المناطق الأقل حظا في التنمية، لكان لذلك مردود إقتصادي عال على المدى الطويل حيث سيشجّع المستثمرين على الانتصاب في تلك المناطق حيث تتوفّر بنية تحتية حديثة ولتمّ تشغيل آلاف العمال خلال السنوات القادمة.
وبمعزل عن كل ذلك، اعتبرت أنّ رأي ذلك الرجل ناجم عن جهل بمنطق الإقتصاد في العصر الحديث. لكنّني سرعان ما اكتشفت أنّ الكثيرين (ومنهم جمعيات أهلية) يسعون للتأثير على المجلس التأسيسي من أجل دسترة الحق في التشغيل (انظر مقالنا السابق حول الموضوع). وهنا تساءلت إن كان هؤلاء على وعي بخطورة ما يفعلون! ومهما يكن من أمر، فقد بثّت القناة العمومية الأولى في نشرتها الرئيسية ليوم 12 ماي 2012 تحقيقا حول مشروع فلاحي بعث حديثا والصعوبات التي يواجهها صاحبه (انظر الفيديو أسفله). ومن تلك الصعوبات، يقول الرجل بأنه لا يجد ما يكفي من اليد العاملة ممّا اضطرّه لجلب عمال من ساحل العاج ليعملوا معه. نعم هكذا! في بلد يتجاوز عدد العاطلين فيه ثلاثة أرباع المليون شخص، لا يجد الرجل بضعة عشرات من الأشخاص ليعملوا معه ب17 دينار لليوم الواحد! لو كانت هذه أول مرّة أسمع فيها هذا الكلام لقلت أنّ فيه من المبالغة الشيء الكثير لكن بمتابعتي لعديد البرامج التي تناولت الشأن الفلاحي هذه الأيام (مثال)، علمت أنّ العديد من الفلاحين يشتكون من عدم وجود يد عاملة تعينهم على جمع المحصول! إنه أمر صادم ولا شك ولكنها الحقيقة المرّة!


وإن كنت أستطيع أن أتفهّم على مضض أنّ أصحاب الشهادات العليا قد يكونون من الذين لا يتحمّسون للإشتغال بالأعمال اليدوية كالزراعة والصناعات الصغرى، فإنّ المعطيات الموضوعية تقدّر حاليا عددهم الجملي بحوالي 160 ألف من جملة ما يناهز 750 ألف عاطل عن العمل في تونس (انظر بعض المعطيات حول ظاهرة البطالة في تونس). ولهذا فإنّني لا أقدر على إيجاد أي عذر لعزوف ما يزيد عن نصف مليون شخص لا يحمل أغلبهم أيّ مؤهل علمي، عن الإشتغال في ما توفّر من فرص العمل في الميدان الزراعي (خلال الموسم الفلاحي الحالي، المعطيات المناخية الإيجابية كانت سببا في تطوّر حجم الصابة الفلاحية وهو ما يوفر عددا كبيرا من فرص الشغل، على الأقل الفصلية، لجمع المحصول). وفي تقديري، ثمّة ثلاثة أسباب رئيسية لهذه الوضعية المزرية:

1- السبب الثقافي: لقد تربّت أجيال كثيرة في تونس على اعتبار الملك العام (رزق البيليك) مصدر رزق يجب النيل منه كلما سنحت الفرصة. وترسّخ في ذهن التونسي أنّ الدولة هي المصدر الأول للثروة والمال. ولقد عمّقت عشريتي بن علي تلك الثقافة بشكل كبير، حيث أنّ انتشار الفساد ومظاهر استغلال ممتلكات الدولة (سواء من قبل الحزب أو الحكام أو الموظفين العموميّين كالسيارات الإدارية والهواتف وغيرها) إضافة إلى انتشار ظاهرة "الأغنياء الجدد" ووسائل البحث عن الربح السريع والسهل (كلنا يذكر مثلا برنامج "آخر قرار" وجائزة المليار، والإشهار لمسابقة البروموسبور في وسائل الإعلام العمومية، إلخ). هذا دون أن ننسى أنّ بن علي قد جعل من النمط الاقتصادي وسيلة للسيطرة على الشعب (راجع كتاب بياتريس هيبو حول الموضوع) حيث سهّل قروض الإستهلاك ووسائل الترف السهل في مقابل تراجع كبير لقيم العمل والمحاسبة والمسؤولية. كل تلك الظروف كانت سببا في ظهور أجيال من التونسيين الذين يعتقدون أنّ أفضل مهنة هي الحصول على وظيفة في القطاع العام ("مسمار في حيط"، لا رقابة على العمل وبالتالي لا ضرورة لبذل الجهد أصلا، واستغلال مقدّرات الإدارة لقضاء الشؤون الخاصة، إلخ). وبالتالي فإن ذلك لم يتغيّر فجأة بعد 14 جانفي، وإنما هذه الذهنيّة تعتبر سمة ثقافية تاريخية لجزء كبير من الشعب التونسي ستحتاج البلاد لعقود عديدة للتخلص منها.


2- السبب السياسي: لقد عملت عديد الأحزاب السياسية يمينية كانت أو يسارية، على إيهام الناس بأنها ستوفّر لهم عددا كبيرا من مواطن الشغل في الوظيفة العمومية وما عليهم إلا الانتظام في الطابور لانتظار دورهم في الحصول على "وظيفة مسمار في حيط". فكلنا يتذكر تلك الأرقام الفلكية التي نشرتها بعض الأحزاب حول إحداثات الشغل لو وصلت إلى السلطة (على سبيل المثال: 590 ألف موطن شغل خلال 5 سنوات في برنامج حركة النهضة، 750 ألف في برنامج الحزب الإتحاد الوطني الحرّ -حزب توّة- خلال 7 سنوات، إلخ). ولعل أحد الأسباب التي جعلت عريضة المدعو الهاشمي الحامدي تفوز ب26 مقعدا في المجلس التأسيسي تلك الوعود المتمثّلة في التغطية الإجتماعية المجانية للجميع، النقل المجاني لمن تجاوز سن الخامسة والستين ومنحة بمئتي دينار لكل عاطل عن العمل. ولما سئل هذا الأخير عن مصدر الأموال، قال سأوظّف ضريبة بعشرة دنانير على كل تذكرة سفر بالطائرة! وبالتالي، تعتبر النخبة السياسية التونسية مسؤولة بشكل كبير على الشعور العام بعد 14 جانفي أنّ كل العاطلين يمكن تشغيلهم في القطاع العام الذي يزدحم بأكثر من 580 ألف موظف وعامل وجب التخلّي على الأقل على نصفهم خلال العقدين القادمين!

3- السبب النفسي: يشعر الكثير من التونسيين بأنّ الدولة التي اضطهدتهم لعقود طويلة، ضعيفة لذلك هم يعملون الآن بقصد أو بدون قصد، على اضطهادها كما اضطهدتهم. وبما أنّها فعلا تعاني من ضعف حاد في هذه المرحلة فنحن نرى كل أنواع التجاوزات تحدث من قبل المواطنين بداية بتخريب الملك العام وحتى السيطرة على أملاك الدولة من أراض وشوارع بالإضافة إلى تفاقم ظواهر البناء الفوضوي وغيرها. ولذلك نسمع فيما نسمع من الترّهات، الكثيرين يقولون: "من واجب الدولة أن تبحث لي عن شغل..." ونشاهد كل يوم خيم الإعتصامات أمام وزارة التشغيل والإضرابات العشوائية في عديد الشركات الوطنية التي كلّفت الخزينة العامة خسائر بآلاف الملايين من الدنانير (شركة فسفاط قفصة نموذجا).

لو كان أغلب التونسيّين يؤمنون فعلا بالمعنى الحقيقي للحرية والكرامة لفعلوا كل شيء من أجل تحصيل قوتهم بجهدهم وكدّهم، ودون الاعتماد على أحد بما في ذلك الدولة! لذلك أعتقد أنّ ما نعيشه هو أزمة قيمية وأخلاقية عميقة تمسّ في الآن نفسه رجل الشارع الذي غالبا لا علاقة له بالمعرفة الاقتصادية وكذلك النخب السياسية المستعدّة لفعل أي شيء للوصول إلى السلطة حتى ولو اضطرّت للكذب على المواطن ومغالطته. ولإصلاح ذلك، نحن في حاجة إلى كل أهل الحكمة والمعرفة في البلاد حتى يغيّروا ما بأنفس الساسة والمواطنين شيئا فشيئا. علينا أوّلا البدء بتغيير مناهج التربية والتعليم حتى يتعلّم أطفالنا ضرورة الاعتماد على أنفسهم والمبادرة الشخصية والعمل من أجل المجموعة لا استغلال جهود المجموعة للمصالح الفردية! ثم للحديث بقية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق