الجمعة، 13 يوليو 2012

النهضة وبداية تزوير تاريخ الثورة!

يقول المثل المعروف "التاريخ إعادة أبدية لنفسه!". يبدو أنه مكتوب علينا أن نعيش مرة أخرى تجسيما ركيكا لهذا المثل. ففي سنوات مقاومة القوات الاستعمارية وخلال أوج حركة التحرّر الوطني، اتحد ثلاثة زعماء: الحبيب بورقيبة الرجل الأول في الحزب الحرّ الدستوري، يده اليمنى صالح بن يوسف المناضل ذو الخلفية العروبية الإسلامية وفرحات حشاد الزعيم التاريخي للحركة العمالية والنقابية التونسية. اغتالت اليد الحمراء هذا الأخير في 05 ديسمبر 1952، وقيل أنّ بورقيبة كان متواطئا في عملية اغتياله لكن للأمانة لا توجد أية قرائن تارخية متماسكة تدعم هذه التهمة. بينما مثّل قبول الحبيب بورقيبة بالحكم الذاتي سنة 1955 نقطة اللاعودة في الخلاف الذي فرّق بين الرجلين -بورقيبة وبن يوسف- سياسيا وايديولوجيا في السنوات الأخيرة قبل إعلان الاستقلال وتحوّل شيئا فشيئا إلى صدام مفتوح بينهما. جاء استقلال 20 مارس 1956 ليجعل من بورقيبة الرجل القوي في تونس فكُتب له دستور على مقاسه ومُنح لقب "المجاهد الأكبر" ليغمط بذلك رفاق السلاح حقّهم المادي والمعنوي في الاعتراف بنضالهم من أجل استقلال البلاد. وبعد إعلان الجمهورية وتمكنه وبطانته من الحكم، أطلق حملة تصفية لليوسفيين تمثلت أهم محطاتها في اغتيال صالح بن يوسف نفسه في برلين في 11 أوت 1961. تلى ذلك اكتشاف محاولة الانقلاب على بورقيبة والمحاكمة الأمنية المهزلة سنة 1962 التي أعدم على إثرها احدى عشر شخصا وقضّى بسببها العشرات الآخرون سنوات طويلة في معتقلات رهيبة تحت الأرض تميّزت بظروف غير إنسانية مطلقا. بينما فرّ من البلد مئات المتعاطفين والمناصرين لليوسفيين ومنهم والد رئيس الجمهورية الحالي الذي لجأ إلى المغرب في بداية الستينات. في خضمّ كل ذلك، استعمل بورقيبة وسائل البروبغندا ليسحب من خصومه اليوسفيين خاصة، صفة النضال من أجل تحرير البلاد وانبرت الدكتاتورية الناشئة في نعتهم بالخونة والضالّين. ولم تتضمّن الكتب المدرسية أية إشارات لدور هؤلاء -السياسي والعسكري- في مقاومة المستعمر. 
وهكذا تمكن بورقيبة من حيازة فضل الاستقلال وإعادة كتابة تاريخ البلاد لأسباب تجمع بين الذاتي والسياسي وحتى الجهوي/الفئوي. لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يقوم بها الساسة بتزوير مفضوح للتاريخ الحديث للبلاد. ولأن مبدأ "كما تدين تُدان" سنّة كونية لا مهرب منها، فقد تعرّض إرث بورقيبة للاجتثاث والتزوير على يد ذلك الجندي صاحب الطبع الأرعن والثقافة المحدودة الذي قفز في خريف عمر "المجاهد الأكبر" إلى مركز الوزير الأول، فخطّط ونفّذ انقلاب السابع من نوفمبر 1987. كان أوّل قرار للذي أطلق على نفسه "صانع التغيير" هو إقرار "السجن المؤبد" ل"المجاهد الأكبر" حيث قضّى هذا الأخير سنواته المتبقية في عزلة تامة عن محيطه وحتى أقاربه وأهله. وبقيت تلك الرسالة التي كتبها "المجاهد" ل"الصانع" بغية تخفيف شروط إقامته الجبرية غير المعلنة بلا رد حتى توفي الرجل. ناهيك عن تعرّضه -حسب جلّ الشهادات- خلال موته ودفنه إلى سوء المعاملة ولم يلق من لدن خلفه أي تقدير له كرجل دولة أو لإرثه بغثّه وسمينه. ولم يتوقّف الأمر عند ذلك الحد، فبعد يومين من استلامه الحكم أمر بتغيير النشيد الرسمي الذي يذكر أحد مقاطعه اسم بورقيبة، وعمل ساكن قرطاج الجديد على طباعة أوراق نقدية جديدة لا تحمل صورة سابقه، واقتلع كل التماثيل البورقيبية من كل المدن، وغيّر اسم الحزب الذي ورثه عنه باسم جديد لا صلة له بالعهد السابق. كما غيّب ذكر بورقيبة من كل وسائل الإعلام وحتى من الكتب المدرسية. 
انبلج مع انقلاب الجنرال عهد جديد نسبت فيه كل الانجازات السابقة -تلميحا أو تصريحا- إلى رصيد مكاسب وإنجازات "رجل الإنقاذ". ولم يذكر أحد لبورقيبة بناءه للدولة التونسية حجرا حجرا أو رفعه الجهل عن مواطنيه بنشر التعليم في ربوع البلاد وتحريره المرأة. بل نسي الكثيرون الرجل المسجون في فيلته بالمنستير وتهافتوا على التجمّع لتقديم فروض الطاعة والولاء طمعا في المناصب والامتيازات. ويا لسخرية القدر، فقد عاد هؤلاء اليوم إلى الساحة من نافذه البورقيبية بعدما طردهم الشعب من باب التجمّع، وهذا موضوع ثان لا يتّسع المجال لنقاشه. المحصّلة أنّ هؤلاء كانوا الدعامة الرئيسية التي جعلت نظام الفساد والاستبداد ودولة العصابات والمافيات تستمر ما يناهز الربع قرن إلى أن انفجرت الأوضاع دون سابق إنذار وتغير رأس النظام بطريقة غريبة ونادرة عشية 14 جانفي وانفتحت آفاق جديدة بفعل الضغط المتواصل للشعب. في تلك الفترة، كان ساسة تونس في مرحلة ما بعد 23 أكتوبر لا يزالون في قطيعة تامة مع ما يحدث في البلد، فالثورة فاجأتهم تماما كما فاجأت نظاما راهن على عصا البوليس من أجل استدامة جدار الخوف الذي أسقطه التونسيون عندما لم يعد لهم ما يخسروه! خلال مخاض الثورة، كان راشد الخريجي شُهر الغنوشي، ولطفي زيتون ورفيق بن عبد السلام بوشلاكة وعائلاتهم يجلسون في شققهم الفاخرة في لندن يشاهدون الرصاص وهو يحصد أرواح التونسيين، وأقصى ما فعلوه هو تحبير بعض المقالات (بمقابل مادي: حوالي 600 دولار للمقال الواحد) للجزيرة.نت في هجاء النظام. أما النهضويين الذين كانوا بالداخل فكانوا في بيوتهم أو في الأسواق يبيعون البقدونس والطماطم (وبعضهم أصبح بعد الثورة بثمانية عشر شهرا مالكا لقناة تلفزيونية!). ولم نسمع أن نهضويا واحدا قد استشهد أو جرح سواء في تلك الفترة أو لاحقا. وقد تواصل ذعر القيادات النهضوية في الخارج ولم يعد منهم في الأيام الأولى التي تلت 14 جانفي إلا نفر قليل. ويشهد عبد الفتاح مورو أنه تلقّى بعد أسبوع من فرار بن علي اتصالا من راشد الغنوشي يسأله فيه عن رأيه في إمكانية عودته إلى البلاد. وتواصل ذعره وتردّده إلى أن تلقى تطمينات رسمية من حكومة محمد الغنوشي الأولى بأن لا أحد سيتعرّض له عند عودته. حينها فقط أوعز لأتباعه بأن يعدوا له استقبالا كبيرا وهو ما كان، حيث اندفعت يوم 30 جانفي 2011، حشود المريدين إلى مطار تونس قرطاج مردّدة نشيد "طلع البدر علينا" الذي أنشده الأنصار عند وصول الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا. ذلك الغنوشي الذي استقبل استقبال الفاتحين قال قبل الثورة بأيام عن الشباب التونسي الذي دفع حياته ثمنا للحرية والكرامة عندما دقّت ساعة الحقيقة، أنه شباب على استعداد لبيع البلد! (أي ببساطة هم شباب خونة)
يعلم القاصي والداني أنّ الثورة التونسية ولدت بلا رأس ولم يكن لأي فعالية سياسية أيا كانت طبيعتها أي دور فيها، بل سعى بعض السياسيين إلى التآمر عليها وإجهاضها بمحاولة إنقاذ بن علي عندما اهتزّ عرشه وشارف على الانهيار. لقد خرج التونسيون نساء ورجالا في جميع جهات البلاد ليقولوا للطاغية "ارحل". لعب الطلبة والمحامون وبعض القيادات النقابية الجهوية دورا طلائعيا في تأجيج الانتفاضة في بدايتها، والتي تحوّلت بعد مجزرتي تالة والقصرين يومي 8 و9 جانفي إلى ثورة جارفة وصلت إلى العاصمة عشيّة التاسع من ذلك الشهر. ولم تخضع تلك الثورة الشعبية العفوية إلى أية حسابات سياسية أو ايديولوجية، فما بالك أن يكون قد ساهم النهضويون سواء في الداخل أو الخارج، في أي من فعالياتها. ورغم ذلك، تسعى النهضة وقواعدها إلى محاولة إيهام المواطنين بأن النهضة هي من قاد الثورة. ففي يوم 19 ديسمبر 2011، أعلن أحد مسؤولي النهضة في إحدى فعاليات الاحتفال بالثورة بسيدي بوزيد بأنّ النهضة هي من قاد الثورة فكاد شباب المنطقة يفتكون به لولا تدخل بعض العقلاء لتهدئة الأوضاع وانسحاب ممثلي النهضة تحت حماية الجيش. ولقد اشتدت في الفترة الأخيرة وتيرة تزييف الحقائق سواء في الإعلام أو في المواقع الالكترونية. فمثلا صرّح المدعو عامر العريض وهو من قيادات الصف الأول في النهضة بأن حكومته هي من منح التونسيين الحرية (انظر الفيديو أسفله). بينما الحقيقة هي أنّ التونسيين هم من افتكوا حرّيتهم وثأروا لكرامتهم التي أهدرتها الدكتاتورية لما يناهز الستة عقود بدمائهم ودموعهم. وحين كان التونسيون يتساقطون بالرصاص الحيّ كان هو غيره من النهضويين يجلسون في بيوتهم طلبا للسلامة بعدما تمكن بن علي من كسر شوكتهم خلال التسعينات عندما سعوا في مناسبتين لقلب نظام الحكم بالقوة لإقامة دولة الإمام المرشد!


الدليل.نت هي احدى الصفحات النهضوية المقرّبة من المكتب الإعلامي لحركة النهضة وتقوم بنشر بروبغندا الحزب والحكومة على حد السواء، نشرت يوم العاشر من جويلية الجاري خبرا حول لقاء ستجريه قناة الجزيرة القطرية مع بعض المشاركين في المؤتمر التاسع للحركة. وفي تعريفها للضيف السابع تقول حرفيا (انظر الصورة الموالية): "عمر أولاد أحمد من شباب الحركة وعضو الهيئة التأسيسية" وتضيف "قاد أول اجتماع في الثورة التونسية بعيد حرق محمد البوعزيزي لنفسه"! أي نعم هكذا!

صفحات نهضوية أخرى تقحم دوما "شهداء" الحركة كلما تحدّثت عن شهداء الثورة. وهذا ينطوي على مغالطة كبرى وسوء نية مفضوح: أولا، لأن النهضة لم تشارك في الثورة لا على مستوى القيادة ولا على مستوى القواعد. بل إن القواعد غير موجودة أصلا لأنّ بن علي قضّى ما يزيد عن العقدين في الكشف عن الحركة النهضة وتصفية هياكلها ومتابعت المنتمين إليها والمتعاطفين معها أمنيا وقضائيا. والحديث عن شاب نهضوي قام بأوّل اجتماع  "بعيد حرق محمد البوعزيزي لنفسه" من أجل الثورة كذبة كبيرة. ثانيا، محاولة الإشارة إلى النهضويين الذي قضوا تحت التعذيب الوحشي في بداية التسعينات ووصفهم بالشهداء وحشرهم مع شهداء الثورة إهانة كبيرة لكل من شارك في الثورة وشتيمة وقحة لكل العائلات التي دفعت أبناءها وبناتها قربانا لما نعيشه اليوم من حرية نسبية. فكيف يستوي من كان يخطط وينفذ العمليات الإرهابية وسعى في مناسبتين إلى قلب نظام الحكم بالقوة (المجموعتة الأمنية الأولى -1987- والثانية -1992- وكان منسّق الأولى الوزير الحالي للتعليم العالي المنصف بن سالم الذي اعترف بذلك صراحة) وهجم على المواطنين بماء النار (ماء الفرق) وله علاقات مع أنظمة إرهابية دولية (انظر هذه الوثيقة، هامش الصفحة الخامسة)، إلخ وكل ذلك من أجل الحصول على السلطة، فهل يستوي كل هؤلاء مع من سقط برصاص الطاغية من أجل الحرّية والكرامة والعدل؟


قال "خليفتنا السادس" في زلّة لسان تحمل أكثر من معنى في خطابه في اليوم الأول لمؤتمر النهضة مشيرا إلى نظامنا السياسي القادم "... في دكتاتوريتنا الناشئة ...". وكما يقول الخليفة الرابع الإمام علي كرّم الله وجهه "ما أضمر أحدكم شيئا إلا أظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه"، فإن النفس إن تعلقت بشيء أظهرته ولو بعد حين. وكما بيّنا في مطلع هذا المقال فإنّ أولى خطوات الدكتاتورية هي تزييف ما سبق من التاريخ للبحث عن مشروعية للنظام الجديد غالبا ما تكون مفقودة أو منقوصة. وما المحاولات المحمومة للنهضة عبر تصريحات قياداتها والعمل الدؤوب لمناصريها وميليشياتها الالكترونية لمحاولة إيهام الناس بأنه كان لها حضور ودور قيادي في الثورة التونسية إلا أحد المؤشرات -وما أكثرها هذه الأيام- على المنحى التسلطي والإقصائي الذي تسير فيه النهضة وتحثّ الخطى بعزم! فهل يأبى التونسيون التفريط في ثورتهم لمن ركب عليها بالمال والديماغوجيا والرشوة السياسية؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق